عبدالله بن عبدالكريم آل الخميس
لحدث :
تمام الساعة 4:30 صباحاً - قبل بضعة أشهر - استيقظتُ من النوم في ليلة باردة على جرس المنبه .. فتحتُ عينيَّ ببطء .. لم أرَ شيئاً .. !!
كان الظلام دامساً .. تحسستُ مقبس الـ " أبجورة " فوجدتها لا تعمل .. !!
عدتُ مسترخياً ، أطلقتُ زفرةً هادئة ، شددتُ أطرافي ، ثم نهضتُ من فراشي متوجساً الخُطى إلى مفاتيح الإضاءة قربَ الباب .. وجدتها هيَ الأخرى لا تعمل .. !!
خمّنتُ أن التيار الكهربائي - عموماً - في حالة انقطاع .. لكن كيف .. والمنبه الكهربائي هو ما أيقظني .. !! .. أيضاً لا تزال تتسلل إلى مسمعي نغماتُ مُشغل الموسيقى الخافتة .. !! .. ؟
حالة من الخوف تتملكني وأنا أتلمسُ سطح المنضدة المجاورة بتوتر بحثاً عن الولاعة فوق علبة السجائر ، أشعلتها .. استشعرتُ حرارة الشعلة لكني لم أرَ الضوء .. !!
أُسقط في يدي ، جلستُ منهاراً على الأرض ، مسحتُ على شعري بعنف ، دلكتُ جفنيّ وفتحتُ عينيَّ - عن آخرهما - وأنا أحاولُ استيعابَ ما يجري ، أأنا أحلم .. ؟ .. أما زلتُ نائما .. ؟
زحفتُ إلى الـ " أبجورة " ، أدخلتُ يدي وتحسستُ المصباح فـ لسعني ، أيقنتُ أنهُ مضيءً .. وأنني .. وأنني .. عميت ..
ازدحمتْ الأفكار متدافعةً على عقلي في توليفةٍ عجيبة من الإحباط والغضب والخوف ..
بحثتُ عن هاتفي الجوال ، وبأصابعي المرتعشة رحتُ أتحسس لوحة المفاتيح - مضطرباً - أطلبُ صديقاً مقرباً لم أعد حتى أتذكر ترتيبَ رقم هاتفه .. أيقظه اتصالي من نومه ، طلبتُ منه سرعة الحضور لحاجتي إلى الطبيب وهدأتُ من روعه قبلَ أن أنهيَ المكالمة مرتداً لخوفي ..
بعدَ إطراقةٍ قصيرة ، خطوتُ بحذر إلى المغسلة ، توضأتُ وصليتُ الفجر ..
اقتربت مرة أخرى من المصباح ، كنتُ أشعرُ بالضوء ، أخذتُ أغمضُ عينيَّ طويلاً لأفتحهما من جديد ، كان الضوء يتضح أكثر في كل مرة ، قذفتُ ببصري إلى الناحية الأخرى ، فكانتُ صورة ضبابية معتمة ، ولم يكن صاحبي قد وصل إلا وأنا أرى الأشياء بِغَبَشٍ وخمول ودونَ الوضوح التام - حمدتُ الله - وتوجهتُ مع صاحبي إلى الطبيب ..
شرحتُ للطبيب ما حدث بينما كان يشخص حالتي ويتفحصني ويسألني ، أخبرني أنها حالة من العمى المؤقت جاءت نتيجة لبعض الإجهاد ، أجرى لي علاجاً أولياً حتى استعدتُ نظري تماماً - والفضل لله - وأوصاني بأخذ قسط من الراحة ووصفَ لي دواءً .. و.. خرجت .
---------------------------
التجربة :
سعادة مختلفة كانت تغمُرُني عندما عدتُ إلى البيت في ذلكَ الصباح ..
أحسستُ بـ القيمة الكبيرة لهذه الحاسة - النعمة - التي يأخذنا تعودنا عليها عن لذة التفكر بوزنها وتأثيرها وفعلها الكبير في جميع جوانب حياتنا ..
فآليتُ على نفسي أن أخوضَ تجربةً ربما يصفها البعضُ أنها ضربٌ من ضروبِ الجنون ، غيرَ أني رأيتها دخولاً إلى عالمٍ آخر .. عالم من الغموض .. من الخيال .. عالم العُتمة .. عالم الظلام الذي لمحتُ فيهِ إشراقة من نوعٍ جديد ومثير ..
عزلتي وعزوبيتي وقلة معارفي في مدينة جدة التي أقيم فيها منذ سنوات .. كل هذا يساعدني كثيراً على فكرة الاختلاء بنفسي وسط زحام الناس في غمرة هذه التجربة الواعدة ..
في الليلة القابلة أخبرتُ صاحبي بما عزمتُ عليه فاتهمني بـ الجنون ، أسعدني اتهامه وزاد من عزيمتي ..
طلبتُ منهُ أن يذهب إلى السوق ويحضر لي قطناً وشريطاً طبياً لاصقاً ونظارةً سوداء وعصىً فاخرة ، ولحين عودته بالمشتريات قمتُ بتجهيز أجود عطوري وأكثر ملابسي أناقة ..
أحضر الطلبات وتركني لأنام على أن يعودَ إليَّ في السابعة من صباح الغد ، قبل أن أسلمَ جفنيَّ للنوم وضعتُ عليهما القطن وأحكمتُ إغلاقهما بالشريط اللاصق بطريقة مرتبة حتى لا يظهر من خلف النظارة ولم أعد أرى أي شيءٍ سوى الظلمة .. ونمت ..
صحوتُ في الصباح وابتسمتُ للعمى أسكتُ المنبه وأوقعتُ كأسَ الماء الذي كان على الطاولة وضحكت ، وبدأتُ بفرح أخوضُ التجربة التي قررتُ لها يوماً كاملاً ..
أخذتُ في رسم صورة من مخيلتي وذاكرتي لتفاصيل غرفتي وبيتي لأتحركَ على أساسها - كانت المتعة لا توصف - رحتُ أحسب الخطوات إلى باب الغرفة .. الحمام .. الصالة .. المطبخ .. غرفة المعيشة ..
توضأت وصليت لتقفزَ إلى ذهني تفاصيل الصباح البارح بمفاجأته المرعبة وخوفه ، غيرَ أن سعادة هذا الصباح لم تدع للتذكر مكانا ، خرجت من الغرفة ودلفتُ إلى المطبخ وبدأت في إعداد القهوة ، وكم أدهشني عدم اهتدائي إلى مكان السُكّر واكتواء يدي بحرارة الموقد ، نجحتُ في إعداد القهوة لكنها وقعت من يدي حين تعثرتُ بالكرسي في غرفة الجلوس وأدركتُ منها ما يكفي لفنجانٍ واحد ، قمتُ بتنظيف المكان وأنا أفكر .. أذهلتني صعوبة الأمر !! .. بيتي الصغير الذي أحفظ أركانه أحيط بكل محتوياته ، كيفَ أحتاج إلى النظر بهذا القدر لأتحرك فيه .. ؟ !!
فتحتُ التليفيزيون وأنا أحتسي فنجان القهوة ، وجدتُ صعوبة ممتعة في بحثي بـ الريموت عن قناة الأخبار ..
عدتُ إلى الغرفة لأرتديَ ملابسي وأستعد للخروج - في طريقي إلى الغرفة حرصت ألا أتلمس الجدار ونجحتُ في الدخول - وصل بعد ذلك صديقي ، ضحك كثيراً عندما رآني ولم يفتأ يصمني بالجنون ، أجبته بابتسامة : (ما لك دخل ، أنا مجنون وراضي بجنوني) ..
حرصتُ على أن أخرج بأبهى حلة اتقاءً للإحسان والتصدق وإبقاءً على نظرات الشفقة والرحمة .. انها تجربتي ..
في "طريق المدينة الطالع" الأكثر ازدحاماً - جهة البلد - طلبتُ من صاحبي أن يتركني في تمام الساعة الـ 8 صباحاً على أن يعود لأخذي في الساعة الـ 11 ليلاً ..
بنظارتي السوداء والـ تيشيرت الأنيق تجولتُ بين المتاجر لبعض الوقت متوكأً على العصى بعنجهية أعمى ، كنتُ أعاني من فواصل الأرصفة وبعض الحفر والمزالق ، وأدركتُ الدور المهم الذي يلعبه العصى في حياة الأعمى ..
وقفتُ على طرف الشارع وكان المارة يهرعون إليَّ بطريقة جميلة يبعدونني عن الخطر ، سألني أحدهم عن غايتي ، فأخبرته أني أحتاج لسيارة ليموزين ، أوقف السيارة من أجلي وساعدني على الركوب بلباقةٍ أخّاذة .. شكرته و .. ودعني ..
طلبتُ من سائق السيارة أن يوصلني إلى سوق حراء ، وفي السيارة كنتُ أشعر بصوت الهواء بحجم الازدحام بالسرعة بفجأة التوقف بصوت المحرك في تناظمٍ لم أعهده من قبل ، كان الشعور بالخطر أكثر دقة منه في حالة النظر ..
إذ دخلتُ السوق لم يكن هناك الكثير من الناس - فترة الصباح - مما ساعدني على سهولة التجول والتسوق ، أعجبني قول إحدى السيدات وهيَ تمنع ابنتها الصغيرة من الدخول إلى أحد المعارض في الوقت الذي كنت أدخل فيه أنا : (انتظري ، خلي عمو يدخل أول) ، وكان الباعة يولونني عناية خاصة جداً ، المس خامات الملابس وأتفحصها بإحساسٍ بليغ ، كنتُ أعتمدُ على ما دون النظر في انتقاءِ مشترياتي فأستمع إلى اسطوانات الموسيقى بتمعن وأستشعر رائحة العود والعطور وأتذوق نكهة المكسرات والقهوة ..
صليت الظهر في أحد المساجد القريبة وكنتُ أسمعُ همهمات بعض المصلين بالدعاء لي وهم يقيموني في الصف ، تناولت وجبة الغداء في أحد المطاعم ، قضيتُ فترة ما بعد العصر على شاطيء البحر في جو عليل وماطر ..
في المساء ذهبت إلى بعض المكتبات بـ حي الجامعة أسأل عن عدد من الكتب وسمعتُ بعض الشباب يتضاحكون عندما قال أحدهم بصوتٍ لا أظنُ أن أحداً سمعه كما سمعته : أعمى ويقرأ كتب .. ؟ !!
وأحسستُ بسعادة بالغة عندما أحضر لي أحد الباعة كتابان مطبوعان بطريقة "برايل " اشتريتهما مع بعض الكتب والمجلات ومضيت ..
في شارع التحلية قرابة الساعة الـ 9 ليلاً كنتُ أتجول وكان المارة يساعدوني على تخطي الطريق ويصرخون بسائقي السيارات أن يتوقفوا حتى يتسنى لي العبور بأمان ..
قضيتُ الساعتين المتبقيتين جالساً في أحد المقاهي بينما كانت مبارة في كرة القدم تعرض على التيليفيزيون والجميعُ يتابعونَ بأعينهم وأنا أتابعها سماعاً من مكانٍ بعيد ..
ذهبتُ إلى صاحبي الذي استقبلني بقوله : (هاه..؟ ..خلاص..؟ ..طيحت اللي بـ راسك..؟) ..
فلم أجبه بغير ابتسامة يرقصها الفرح ..
عدتُ إلى البيت بسعادة لا توصف وكانت الأضواء مطفأة في بيتي تلك الليلة بالتحديد والظلام يخيم على أرجاء البيت ، لم أكن أشعر بالظلام لأني كوّنت تصوراً في مخيلتي للأشياء والأماكن وكنتُ أتحرك وأتصرف على ضوء ذلك التصور ، ولم تزل التجربة مستمرة حتى أمضيتُ تلك الليلة أدبر أموري المنزلية بكل نجاح ..
نمتُ واستيقضتُ في الصباح لأرفع الغشاوة عن عينيّ مستقبلاً عالميَ الملون الذي اشتقتُ إليه ، مودعاً تجربة مجنونة لكنها ممتعة بكل المقاييس ..
واكتشفتُ أن إمعانَ النظر في الظلام يمكِّننا من خلقِ عالم واضح المعالم يخصنا وحدنا ..
لا يفوتني أن أخبركم بأن مقتنيات ذلك الأعمى هي أفضل ما أملكه اليوم ، فلا ملابسَ عندي أرقى ولا أفخم مما اشتراه ، وأن ذلكَ الأعمى نجح في انتقاء أجود أنواع العطور والعود ونجحَ في انتخاب أفضل معزوفات "يني" و"زامفير" .. لكم منه ومني أحلى الأماني .
- أخيراً -
ليسَ من الضروري أن تمتلكَ حاسة سادسة لتدركَ ما لم يدركهُ ذوو الحواس الخمس
أحسن استخدامَ واحدةٍ منها فقط .. لتعلمَ أن الكثيرين لم يحسنوا استخدامَ أيٍ منها قط .